كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{لَوْلا} هنا للتمجيز، وليست للتحضيض.. إذ لم يكن من الممكن الإتيان بأربعة شهداء، يشهدون على هذا المنكر، لأنه إن أمكن اصطياد أربعة ممن يشهدون عليه زورا، فإن الزور سينفضح، حيث ستختلف أقوالهم، وتضطرب ألوان الصورة التي يصورون بها الواقعة المزورة، لأن كلا منهم يصورها حسب ما تمليه عليه أوهامه وخيالاته، وهيهات أن يلتقى وهم مع وهم، أو يجتمع خيال إلى خيال، وإن أحكموا فيما بينهم تدبير الأمر، وعملوا على سد الخلل فيه!! وفى قوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ} إشارة إلى أنهم لم يأتوا بهم، لأن هذا الأمر لم يشهده أحد.. فقد كانت أم المؤمنين، وكان معها صفوان ابن المعطّل.. ولم يكن أحد غيرهما، وذلك على ما رأى المسلمون وغير المسلمين جميعا.. فأى شاهد يمكن أن يجىء ويقول: إنه شهد شيئا كان بين أم المؤمنين وصفوان؟.
وهذا هو السر في التعبير بالظرف إذ بدلا من أداة الظرف الشرطية إذا أو إن كما يبدو من ظاهر النظم.
وفى هذا ما يجعل هذا الخبر واقعا محققا، وهو قوله تعالى: {فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ}.. أي أن هؤلاء الذين جاءوا بهذا الإفك، موسومون عند اللّه بالكذب.
وقوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ}.. هو ظرف تقع في حيّزه الجملة الخبرية.. وتقدير النظم هكذا: هاتوا أربعة شهداء.. وإنه لا شهداء معكم، وإذن فأنتم عند اللّه الكاذبون، إذ أنكم لم تستطيعوا أن تجدوا من يشهد على افترائكم وبهتانكم.
وفى قوله تعالى: {فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ}. إشارة إلى أن هؤلاء الذين جاءوا بالإفك، ليسوا كاذبين عند الناس، وحسب، بل إنهم في حقيقة الأمر كاذبون فعلا.. وهذا ما سجله اللّه عليهم، ووصفهم به فقد يكون الإنسان في نظر الناس كاذبا في حديث تحدث به، أو شهادة شهد بها، وهو في واقع الأمر صادق.. وإن لم تقم قرائن للناس منهم، حين لم يكن معهم شاهد على بهتانهم.
قوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ}.
أفاض في الأمر: أي بالغ فيه، وأكثر منه. وأفاض في الحديث:
توسّع فيه، وجاوز الحد.
والخطاب موجه إلى المؤمنين جميعا، وأنهم يحملون شيئا من وزر هذا الحديث الآثم، الذي تردد في آفاقهم، وأن الذين لم يشاركوا فيه، ولم يستمعوا له، وقد مسّهم شيء من ريحه الخبيثة.. فهؤلاء الآثمون الذين افتروا هذا البهتان العظيم، هم بعض هذا المجتمع الكبير.. وأنه لو وقع بهم بلاء اللّه، لأصاب رذاذه من لا ذنب له من المؤمنين.
ولكن فضل اللّه سبحانه وتعالى على المؤمنين، وإحسانه إليهم، قد اتسع لهؤلاء المذنبين، فشملهم.. وبدلا من أن يقع البلاء بالمذنبين، ويتسرب إلى غيرهم من المؤمنين، أراد اللّه للمؤمنين الحسنى، فجعل إحسانه إلى المؤمنين، وقاية من إساءة المسيئين، ثم جعل من هذا الإحسان شيئا ينال الآثمين، فلم يعجّل لهم العذاب في الدنيا، بل مدّ لهم في هذه الحياة، ليجدوا فرصتهم في التوبة إلى اللّه، وقد تاب كثير منهم، وقبلت توبتهم، وحسن إيمانهم.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ}.
قوله تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}.
تلقونه بألسنتكم: أي يلقيه بعضكم إلى بعض، وتتداوله الألسنة، كما تتداوله الأيدى الأشياء فيما بينها! وهذا يعنى، أن حديث الإفك الذي تداوله المتداولون بينهم، لم يكن إلا بضاعة رخيصة من لغو الكلام، الذي تتحرك به الألسنة وحدها، دون أن يكون له دافع من عقل أو رأى.. إنه حركة آلية، لا يشترك فيها من كيان الإنسان إلّا اللسان.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} أي أن هذا الحديث المدار بينكم في هذا الأمر، هو حديث ألسنة، لا تنطق عن علم، ولا تأخذ عن عقل، أو منطق.. إنه حديث لسان يأخذ عن لسان، حتى دون أن يمر على الأذن! {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ}.
وإنه لإعجاز من القرآن الكريم هذا التصوير المعجز الشائعات السوء، حين تجد من الناس آذانا مصغية إليها، ونفوسا مستجيبة لها.. إنها حينئذ تنطلق في سعار وجنون، بحيث لا تدع للناس فسحة من الوقت يتلقونها بآذانهم، ثم يديرونها في عقولهم ومشاعرهم، ليكون لهم خيار في قبولها أو ردها، بل إنه يلقى بها على ألسنتهم خلقا مصنوعا، مجهزا للتعامل به على صورته تلك.. إنها كلمات مردّ الحكم فيها إلى الألسنة.
فلتذقها الألسنة إذن، ولتحكم عليها بما تذوق منها.. وإن كثيرا من الناس، ليقفون بالكلام على حدود ألسنتهم، ويفوّضون لها الأمر فيما تقبل منه أو ترفض.. وإن لكلمات السوء لحلاوة على ألسنة أهل السوء والفساد، يترشفونها كما يترشفون الماء البارد على ظمأ، في يوم قائظ!.
وفى قوله تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} تحذير لهؤلاء الذين يستخفّون بالكلمة، وينفقون من رصيد ألسنتهم بغير حساب.. ظانين أن ذلك لا يضيرهم في شيء أبدا، ما دام الذي ينفقون لا يكلّفهم جهدا أو مالا.
وهذا ظن خاطئ.. فالكلمة ليست مجرد صوت ينطلق من فم، وإنما هى- في حقيقتها- رسالة من الرسالات إلى عقول الناس، قد تكون طيبة، فتحمل إليهم الخير والهدى، وقد تكون خبيثة، فتسوق إليهم البلاء والهلاك.. وقد ضرب اللّه مثلا للكلمة الطيبة فقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها} وكذلك ضرب اللّه مثلا للكلمة الخبيثة، فقال سبحانه: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ} (24- 26: إبراهيم).
فالكلمة في حساب المبطلين، والمفسدين، وأصحاب النفوس المريضة، والعقول الفارغة- شيء رخيص، لا وزن له، ولا ثمن للقليل أو الكثير منه.
وهى عند أهل الرأى والعقل، والحكمة، والإيمان.. شيء عظيم، هي آية اللّه في الإنسان.. بها كان إنسانا، وكان خليفة اللّه في الأرض.. وبالكلمة خلق اللّه السموات والأرض، وما فيهن ومن فيهن.. وبالكلمة صاغ الإنسان هذه المصنوعات التي ملأ بها وجه الأرض. فلولا الكلمة ما ولدت الأفكار، ولولا الأفكار ما ظهر للإنسان عمل أكثر من عمل الحيوان على الأرض.
وهذا الحديث الآثم، الذي انطلق في آفاق المدينة، وتداولته بعض الألسنة في غير تحرج أو تأثم، هو أخبث ما تنطق به الأفواه من كلم، إذ كان زورا وبهتانا، وافتراء على الحق في أرفع منازله، وعدوانا على الطهر في أشرف مواطنه.
قوله تعالى: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ}.
هو بيان من اللّه سبحانه وتعالى للمؤمنين الذين خاضوا في هذا الحديث، أو استمعوا له، أو سكتوا عنه، وتوجيه لهم إلى الموقف الذي كان ينبغى أن يقفوه من هذه الفتنة، وتلقين لهم بالكلمة التي كان يجب أن يلقوا بها هذا البهتان العظيم.
فليس للمؤمن إلا موقف واحد من هذا الحديث، وهو إنكاره، وبهت المتحدثين به، ووضعهم موضع التهمة بالكذب والافتراء.
وفى قوله تعالى: {إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} إشارة إلى أن الأمر لم يكن إلا حديثا يدار على الألسنة، ويلقى به على الأسماع، وأنه لم يكن عن رؤية ومشاهدة.
وفى قوله تعالى: {ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا} إشارة أخرى إلى أن هذا الحديث الآثم، لا ينبغى لمؤمن أن ينطق به، لأنه عدوان على النبىّ، وجرح غائر لمشاعره، وإيذاء شديد له.. وليس مؤمن ذلك الإنسان الذي يسوق إلى النبي شيئا يسوءه، أو يخدش مشاعره.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} (61: التوبة).
فلو فرض وكان هذا الأمر على شيء من الحقيقة- فإن الإيمان باللّه ورسوله يقتضى المؤمن أن يدفع هذا السوء الذي يعرض للنبى، وأن يتلقاه دونه، ويحمله عنه.. إن وجد إلى ذلك سبيلا.
أما أن يكون خطبا يزيد النار اشتعالا، فذلك هو الذي لا يجتمع معه إيمان، ولا يبقى معه دين.. لأن الإيمان ولاء، وحب وتقديس، والدين عبادة وصلاة وتسبيح.
قوله تعالى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
هو دعوة كريمة من رب كريم، إلى المؤمنين، ألّا يعودوا إلى مثل هذا الأمر، وألا يخوضوا في أعراض المسلمين، وألا يجعلوا لكلمة السوء مكانا في قلوبهم، أو موضعا على ألسنتهم، أما هذا الحديث الذي حدث، فاللّه سبحانه وتعالى، قد عاد بفضله على الذين عضهم الندم، وجاءوا إلى اللّه تائبين مستغفرين.
فالخطاب هنا موجه إلى كل من كان له مشاركة في هذا الأمر، من قريب أو بعيد.
وفى قوله تعالى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ} إشارة إلى أن الذين اشتركوا في هذا الحديث لم يهلكوا بعد، وأنهم مدعوون إلى أن يستمعوا إلى ما يوعظون به، فإن قبلوا الموعظة وعملوا بها نجوا، وإلا فهم في الهالكين.
وفى قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} إشارة إلى أن الذين توجّه إليهم هذه العظة إنما هم الذين يحرصون على الإيمان، ويدفعون عن أنفسهم كل ما يشين إيمانهم، أو ينقصه.
قوله تعالى: {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
هو إشارة إلى أن ما وعظ به المؤمنون في الآيات السابقة، هو ما اقتضته رحمة اللّه بالمؤمنين، ببيان الشبهات التي تعرض لهم، وبألا يؤخذوا بالعقاب قبل أن يبلّغوا البلاغ المبين، الذي لا شبهة فيه.. وفى هذا يقول سبحانه: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ} (التوبة: 115) وذلك عن علم العليم، الذي يعلم من عباده ما لم يعلموا، ومن حكمة الحكيم، الذي كشف بالعلم طريق الهدى لعباده، ليكونوا بهذا العلم أهل حكمة وبصيرة.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.
هو تعقيب على هذا الحدث العظيم، بالتنبيه إلى أن الذين يحبون أن تفشو الفاحشة، وتشيع الفتنة في مجتمع المؤمنين- هؤلاء لهم عذاب أليم في الدنيا، وذلك بأنّ يؤخذوا بما رصد من عقاب لأولئك الذين يرمون المؤمنين بغير ما اكتسبوا.. ثم إن لهم عذابا أشد وأنكى من هذا العذاب، في الآخرة.
وإشاعة الفاحشة في المجتمع من يكون أكثر من وجه.
بالإقدام على الفاحشة، والتعامل بها.
أو بالمعالنة بإتيان الفاحشة من مرتكبها، أو التحدث بها إلى الناس، وإفشاء ما ستر اللّه منه.
أو بإذاعة الأحاديث عن الفاحشة، سواء أكان ذلك في أهل الفاحشة أم في غيرهم.
أو بالإصغاء إلى حديث الإثم، وترك المتحدثين به، يثرثرون، دون أن يردعهم رادع، أو يمسك ألسنتهم أحد.
فهذه الوجوه، وما يدخل مداخلها، كلها مما تشيع به الفاحشة في المجتمع، قولا، وفعلا.. وأنها إذا لم تؤخذ عليها السبل، من أول الأمر، استشرى شرها، وعظم خطرها، واتسعت دائرتها، حتى ليصبح المجتمع كله واقعا في قبضتها.
إنها أشبه بالنار، تكون أول الأمر شرارة، فإذا هي لم تعالج في الحال، اندلعت ألسنتها، وعلا لهيبها، وصارت حريقا عظيما، لا يقف له شىء، ولا يدفعه شىء، فتقع الجماعة كلها تحت الخطر الذي ترمى به.
وفى قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} تحذير للذين يستمعون لقالة السوء، ويعطون آذانهم لمن يلقون إليهم بها.. فأكثر هذه المقولات كذب، وبهتان، ورجم بالغيب، ورمى بالظنون.. وأكثر ما يدفع المتقولين إلى ركوب هذا المركب الآثم، هو ادعاؤهم العلم بخفايا الأمور، وأنهم يعلمون ما لا يعلم الناس.. وهذا ليس من العلم في شيء حتى وإن كان صدقا، فما هو إلا قشور من قشور العلم، أما العلم الحق، فهو ما يعلمه اللّه: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.
قوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ}. لولا: حرف امتناع لوجود.. أي امتناع تحقيق جوابها، لوجود شرطها.
ولولا هذا الشرط لتحقق الجواب ووقع.
وجواب الشرط هنا محذوف، وتقديره، ولولا فضل اللّه عليكم ورحمته، وأنه رءوف رحيم بكم، لأخذكم بعذابه على هذا الأمر العظيم الذي وقعتم فيه، وخاض فيه الخائضون منكم. اهـ.